أصول الثقافة البانية

إن هناك أصولا لابد من استيعابها حتى يكون تقدمنا سويا لكشف الحجب عن مميزات الثقافة البانية قائما على قواعد متينة ولعل أهم هذه الأصول:

1- التطور والثبات:

 إن الأصل الأول هو أن ندرك أن الكون يقوم على دعامتين اثنتين هما: التطور والثبات، وكل إغفال لأي منهما يكون جهلا بطبيعة الكون. و الحياة لا تستقيم إلا عندما يتحقق التوازن بين الثابت والمتطور، ومن هنا يكون الكشف عن العناصر الثابتة والعناصر المتطورة المتصلة بالكون والحياة والإنسان أمرا له أهميته القصوى، فالشمس تجري لمستقر لها وهي في حركتها لها مدار لا تعدوه، وهذه الكواكب والنجوم السيارة سابحة في أفلاكها ولكنها في سباحتها لا تملك أن تنسلخ من محيطها وإلا اختل نظام الليل والنهار في تعاقبهما، لهما سنة لا تتبدل، حتى هذا الجبل الذي تراه مستقرا أمامك كشيخ وقور مفكر في العواقب كما رآه شاعر الأندلس يوما هو في حركة دائبة وإن لم تدركها العين:

[وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون] ^([1])

كل شيء في حركة، ولكنها حركة موزونة مضبوطة لا تحيد عن النواميس التي أرادها الله عز وجل. والإنسان، ذلك المجهول الذي كلما ازددنا تعرفا عليه ازددنا يقينا بما نجهله عنه هو أيضا في حركة دائبة، ظاهرا وباطنا، ولكنها حركة خاضعة لفطرة ثابتة لا تتغير، إنه منذ استخلفه الله في الأرض له شهوات تشده إلى الطين وأشواق تتسامى به إلى الملأ الأعلى والصراع قائم في ذاته أولا بين نزعة الهبوط والارتكاس ونزعة التسامي والارتقاء.

فالتطور والثبات إذن هما ذانك القطبان اللذان تقوم عليهما الحياة.

) إن قولنا المكرر الملح بان الفطرة ثابتة لا يعني قط أننا نلغي من حسابنا قيمة التطور، إننا إن ألغينا قيمة التطور فإننا نلغي حقيقة الإنسان! كل ما في الأمر أننا نرد التطور الدائم إلى النظرة الثابتة الجوهر ونرى -في ذات اللحظة - الجوهر الثابت والصورة المتغيرة حقيقتين متجاورتين، أو حقيقة واحدة شاملة تفسر كل نشاط الإنسان ( ^([2])

2- انتفاء العبث :

 هذا الكون العجيب وهذا النظام الدقيق، وهذا الانسجام الهائل بين العناصر الثابتة والعناصر المتغيرة، كل ذلك لم يخلق عبثا وإنما هو يسعى إلى غاية محددة والى هدف لا بد ملاقيه، وهذه حقيقة تشرق أنوارها في جوانب الفطرة السليمة ،فإذا غفل عنها الإنسان نال من الضنك والحيرة بقدر غفلته عنها، ألا ترى إلى ذلك الأعرابي الذي سئل: كيف تدل على وجود الخالق؟ فأحاب: إذا كان السير يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير أفلا يدل هذا الكون العجيب على العليم الخبير ؟

ومن هنا كان من أخطر ما ابتليت به الإنسانية من فلسفات، فلسفة العبث التي تعطل الطاقات وتجعل الحياة قاتمة غير ذات جدوى وتنشر "السيزيفية " البغيضة بما تشمله من يأس ودمار.

3- الصراع:

إنه الأصل الثالث الذي جعله الله عز وجل سبيلا إلى الصلاح وهو من سننه الخالدة. إن الصراع قائم بين الحق والباطل، والباطل لا يهدأ ولا يركن، فإذا سكن وسكت الحق انتفى الصراع وظهر الفساد.] ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء . ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين^[3][. ] الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز[^([4])

وللصراع أوجه متعددة، وإن كان جوهره واحدا، ونكتفي باللمحة العابرة فنشير إلى وجهتين من أوجه الصراع:

أ- فالصراع في وجهته الفكرية يتجه نحو تحرير الإنسان من كل الأنماط التي تكبله، والأشكال التي تعوق قدراته الإنسانية من أن تنمو النمو الطبيعي، وتعمل على طمس خصائصه ومسخ حقيقته، وتشويه فطرته، أي تحريره من كل ما يحول دون تحقيق إنسانيته، ولكن قمة التحرر لا تنال إلا بسبيل واحدة وهي: تحقيق العبودية، وإن تحرر الإنسان من كل الطواغيت إنما يتم عن طريق تحقيق العبودية لله عز وجل. وإن درجة العبودية لله تعالى هي أسمى ما يمكن إن يسعى إليه الإنسان، ومن هنا نعت الله الكريم، رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، في أكمل حالاته بالعبودية فقال تعالى: ] سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ، إنه هو السميع البصير [ ^([5])

ب- والصراع في وجهته الاجتماعية صراع بين المستضعفين والمستكبرين، وهذا هو المصطلح الإسلامي الشامل الذي يقصر دونه كل مصطلح آخر ويقف غير مستوعب كل ما يتضمنه المصطلح الإسلامي من دلالات، ومن ذلك القول بالصراع الطبقي، ولتوضيح ذلك يمكن أن نتأمل تاريخ التحولات الكبرى، ولاسيما تاريخ الرسل والأنبياء لنقف – على سبيل المثال – عند فترة من تلك الفترات، وهي فترة موسى عليه السلام: فلقد كان الصراع قائما بين معسكري التوحيد والشرك. يقول تعالى ] بسم الله الرحمن الرحيم  طسم ، تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون[ ^([6]).

لقد كان في معسكر الشرك أنماط من العبادات تستعبد الإنسان وتشل قدراته وتحجبه عن نور اليقين وأخطرها: عبادة السلطان ممثلة في فرعون، وعبادة المتاع ممثلة في قارون. ولكن الذي يلفت الانتباه أن الإيمان كان هو الذي يصنع أحداث التاريخ، صناعة يعجز التفسير المادي عن تقديم مبررات لما كان يصاحبها من مواقف إلا عن طريق اللجوء إلى ما يسمى بالحالات الشاذة، وإعطاء كل حالة مصطلحا يدل عليها.

إن حال إيمان زوجة فرعون بدعوة التوحيد، وخروجها على عبادة السلطان والجاه والمال، وقد لقيت في سبيل ذلك عنتا شديدا وعذابا أليما كانت لا تزيد على أن تقول:   ]رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين [ [7]. وحال مومن آل فرعون الذي لم يصده زخرف الدنيا ومتاعها عن السبيل، وحال سحرة فرعون الذين كانوا من أعمدة الحكم الفرعوني، ثم لما تبين لهم الحق آمنوا إيمانا أغضب فرعون وصاح فيهم ] لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين . قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المومنين[  [8]حالات لا يملك التفسير المادي معها إلا أن يقول بالانتحار الطبقي، وهي مقولة يراد بها ترقيع الخرق الذي تحدثه مثل تلك الحالات، فإذا عثرنا على حال معكوسة كحال قارون ] إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم [[9] قال دعاة التفسير المادي بالتسلق الطبقي .

إنهما مقولتان تبريريتان يقدمهما التفسير المادي بين يدي التاريخ، أما التفسير الإسلامي فيقول شيئا آخر: إن الحركات الربانية تتجه لمصلحة المستضعفين، ولكنها لا تقوم على أكتاف المحرومين دون الموسرين، وكما وجدنا مع موسى عليه السلام سحرة فرعون وامرأة فرعون.. وجدنا مع محمد r ، أبا بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسواهم.. وكما يقول مطهري ) هذه الغفلة، وعدم إدراك الفرق بين الطموح للثورة، وبين اتجاه الثورة، قد أدى إلى الوقوع في كثير من الأخطاء والاشتباهات ( ^([10])وهناك أمر آخر وهو أن المستضعفين ليسوا محصورين في المضطهدين ماديا بل إن الذين يضطهدون ويقاتلون في سبيل المبدأ والعقيدة هم المستضعفون، ولنا في التاريخ الإسلامي شواهد شتى إذا ما الفرق بين صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي، وبين أبي بكر العربي الذي استضعف وطورد فخرج إلى ربه مهاجرا ؟

^[1]-  النمل : 90

^[2]-  التطور والثبات: محمد قطب – ص 145.

^[3]-  البقرة : 247-249

^[4] - الحج: 40 .

^[5] - الإسراء 1

^[6]-  القصص 1- 6

 ^[7] - التحريم : 11

^[8]- الشعراء :49-51

^[9]-  القصص :76

^[10] - حول الثورة الإسلامية : 39